الرياض: بدر الخريف
أجبرت الأحداث التي شهدها الشارع العربي منذ سنوات وإلى اليوم، الشاعر السعودي سعد الغريبي، الذي عُرف بشاعر الوجدانيات والقصائد العاطفية، إلى التحول من الشعر الوجداني إلى شعر الهم العربي.
وقال الغريبي قبل توجهه إلى العاصمة الأردنية عمان، للمشاركة في مهرجان «الناشرون» للثقافة، إن « تفاقم جراح الأمة العربية، وانقسام أبنائها، ومشهد القتل اليومي، أجبرني على البحث عن حل لهذه المعضلة، فلم أجد سوى الاتجاه إلى طرق لون مختلف من الشعر، وتغيير مساري الشعري، من الشعر العاطفي والوجداني الذي عرفت به، إلى شعر الهم العربي، من خلال طرح قصائد تتناول هموم الأمة العربية».
ويحل الغريبي ضيفا على جمعية «ناشرون» للعلوم والثقافة والأدب للمشاركة في مهرجان «ناشرون» للثقافة والأدب في نسخته الثالثة التي تنظم في المركز الملكي الثقافي برعاية وزيرة الثقافة الأردنية، ويشارك فيه كثير من أدباء الوطن العربي من شعراء وكتاب قصة. ويشارك الغريبي للمرة الثالثة في هذا المهرجان الذي يستمر يومي السبت والأحد 13 - 14 سبتمبر (أيلول) الحالي. وجمهور المهرجان لن يستمع هذه المرة إلى قصائد الغريبي العاطفية كما اعتاد في المرتين السابقتين؛ بل إلى لون مختلف تماما، إلى قصائد تتناول هموم الأمة العربية بعد أن أجبرته الأحداث التي تعصف بالأمة العربية – كغيره من الأدباء العرب - إلى تغيير المسار، وكأنه بذلك يستدعي الراحل نزار قباني حين انقلب من شاعر يكتب الحب والحنين إلى شاعر يكتب بالسكين!
وأخذ الغريبي يقلب ناظريه بحثا عن «حل لمعضلة العرب»، كما يقول، وحين لم يجد في المعاصرين من ينجده، اتجه للعصر الجاهلي ليجد في شاعر الحكمة، زهير بن أبي سلمى، مراده، فوجه إليه رسالة على شكل قصيدة استوحاها من معلقته، واستعمل فيها بحره الطويل وقافيته الميمية. كان ذلك في مطلع عام 2013 وقد تصدرت هذه القصيدة ديوانه الذي صدر أخيرا بعنوان «شمس تأذّن بالرحيل» من نادي الطائف الأدبي ومؤسسة الانتشار العربي ببيروت.
* رسالة إلى زهير بن أبي سلمى
تضمنت رسالة الغريبي الطويلة لزهير بن أبي سلمى موازنة بين عصرنا وعصره، فقد بذل هرم بن سنان والحارث بن عوف الأموال لدفع الديات لقتلى الحرب الدائرة بين «عبس» و«ذبيان»، وتوسطا وغيرهما من الحكماء في إيقاف الحرب الدائرة، في حين نبذل – نحن – الأموال لإيقاد نار الحروب!
يقول في رسالة ود إلى زهير بن أبي سلمى (من وحي معلقته)
قُرُونٌ تتالتْ يا زهيرُ ولم نُفِقْ
إلى الآن من آثارِ عطرٍ لمَنْشَمِ
فقد بعثوا الحربَ الضروسَ ذميمةً
وسالتْ أراضينا كنهرٍ منَ الدمِ
تَبَصَّرْتُ ظَعْنًا غيرَ أنِّي لم أجدْ
سِوى راجماتٍ بالسلاحِ المحرَّمِ
عَلَوْنَ بأجواءِ السماءِ لقذفنا
وما فرَّقتْ ما بينَ هادٍ ومسلمِ
ففي كلِّ ميدانٍ بقايا شَظِيَّةٍ
وقنبلةٌ أو قطعةٌ لم تَحَطَّمِ
وصارت كُراتُ النار في كل شارعٍ
وفي عَرَصاتِ الدارِ بعدَ التَّهَدُّمِ
ودُمِّرَتِ البلدانُ والدُّورُ كلُّها
فما تُعرَفُ الأحياءُ بعدَ تَوَهَّمِ
وراح الغريبي بعد ذلك يستمع إلى الأصوات العربية التي ترتفع وتيرتها يوما بعد يوم، والفِرق التي تتبارى أيها أكثر قوة، وأشد بأسا، وأعلى صراخا، وأخذ يتأمل في عنوان كتاب عبد الله القصيمي الذي أصبح من الأقوال المأثورة «العرب ظاهرة صوتية»، وتساءل: تُرى من وراء هذه الظاهرة؟ ومن علمنا هذا الافتخار الكاذب؟ فوجد بغيته لدى عمرو بن كلثوم في معلقته الشهيرة التي مطلعها:
ألا هبي بصحنك فأصبحينا
ولا تبقي خمور الأندرينا
فوجه رسالة إليه أسماها «جعجعة الرحى» ألفها على بحر معلقة عمرو وقافيته، لكنها لم تكن رسالة ود وإعجاب كما كانت رسالته لزهير؛ بل خطابا امتلأ بالتقريع والتوبيخ لهذا الاستعلاء والادعاء الممجوج الذي لم يجد عمرو له أثرا حين وقع في الأسر، كما نجد له نفعا أمام أزماتنا في أيامنا الحاضرة!
ففي قصيدته «جعجعة الرحى» (صدى لمعلقة عمرو بن كلثوم) يخاطبه مقرّعاً:
فقد أسرفتَ في قتلٍ وسلبٍ
وغاراتٍ شمالا أو يمينا
ولم تحفظْ عهودا أو وعودا
ولم تكُ قَطُّ موثوقا أمينا
تقولُ بأننا نَحمي ذِماما
وننصُرُ كلَّ من يأوي إلينا
وخُنْتَ العيشَ إذ أَهلكتَ عمرًا
وأنتَ بدارِهِ خِلا خَدِينا
فخافكَ كلُّ صِنديدٍ بعيدٍ
وروَّعْت الصحابَ الأقربينا
وأكثرتَ افتخارًا وانتشاءً
بأَجدادٍ عِظامٍ سابقينا
اعتذار إلى نزار قباني!
وكان الغريبي مولعا بنزار قباني، ومعجبا ببساطة أسلوبه، وشفافية روحه، وحديثه عن المرأة بصفة خاصة، في الوقت الذي يكبر فيه اهتمامه بقضايا الأمة العربية وصرخاته المتتالية بتوالي النكسات، وعزّ عليه ما يراه من غير قليل من أدباء وشعراء دأبوا على التهوين من مكانته بين شعراء المقاومة والاحتلال والوحدة العربية.
ويلاحظ أن كثيرا من الناس لا يعرف عن نزار إلا أنه شاعر المرأة، وإن ذكّرتهم بشعره الوطني والقومي تلوا عليك بعض مقاطع من قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» أو «أصبح عندي الآن بندقية»، التي تغنت بها سيدة الغناء العربي أم كلثوم، لكن المتأمل يجد أنه لم يترك مناسبة وطنية ولا نكسة قومية إلا كان المولول عليها والداعي إلى الاتعاظ بها والتباكي على خسائرها روحا ومادة.
ومن هنا، وجد أن قباني يحتاج إلى اعتراف بالجميل واعتذار بالتقصير في حقه، خصوصا فيما يتعلق باتهامه بأن كل همه كأس وغانية، وأنه لا شأن له بقضايا الأمة، فكتب له قصيدة «يا أمير البيان» لتكون له تحية واعتذارا.
ويخص نزار قباني بـ«تحية واعتذار»، قائلا:
لك مني تحيتي وسلامي
شاعر الوجد والجوى والغرام
شاعر الياسمين فاح أريجا
شاعر البحر والندى والغمام
شاعر الحرب إذ توافي خطوب
شاعر الحب حين وقتِ السلام
لست أدري من أين أبدأ بوحي
باشتياقي ولوعتي واحترامي؟!
أم بتقديم عذرنا وأسانا
حين كلنا إليك كل اتهام
حين قلنا (نزار) زير نساء
ورهين لـ(كيفه) والهيام
شاعر النبل والمروءة حقا
شاعر الود والصفا والوئام
ما قدرناك حق قدرك لما
كنت فينا تقودنا للأمام
ما عرفناك يوم كنت لدينا
تضمِد الجرح رغبة في التئام
كم تنبأت للشعوب بقهر
إن تسلم قيادها للطغام
صدق الحدس يا نزار فصرنا
في يديهم كصبية أيتام
إرسال تعليق